بسم الله الرحمن الرحيم
في الصّوم إصلاح القلوب ورياضة النّفوس
من الأبواب العظيمة الجارية مجرى الدّروب الّتي لا تضيق عن كثرة جنود الشّيطان، سوء الظنّ بالمسلمين، فإنّ من حكم على مسلم بسوء ظنّه احتقره وأطلق فيه لسانه، ورأى نفسه خيرًا منه وإنّما يترشّح سوء الظنّ بخُبث الضّان، لأنّ المؤمن يطلب المعاذير للمؤمن والمنافق يبحث عن عيوبه. وينبغي للإنسان أن يحترز من مواقف التُّهم لئلاّ يُساء به الظنّ.. فهذا طرف من ذكر مَداخل الشّيطان، وعلاج هذه الآفات سدّ المداخيل بتطهير القلب من الصّفات المذمومة، ولا يتطهّر القلب إلاّ بالصّوم الكامل.. كيف لا والرّسول صلّى الله عليه وسلّم يحثّنا على هذا الدّواء النّاجع قائلا “إنّ الشّيطان يجري في الإنسان مَجرى الدّم، ضيّقوا عليه بالصّوم”. فإذا قلعت من القلب أصول هذه الصّفات، بقي للشّيطان بالقلب خطرات واجتيازات من غير استقرار، فمنعه من ذلك ذِكْر الله تعالى وعمارة القلب بالتّقوى.. فإذا غلب عليه الهوى فإنّه يرفع الذِّكر إلى حواشيه فلا يتمكّن الذِّكر من سويدائه فيَستقرّ الشّيطان في أعماقه ولا تنفعه نصيحة ولا تعويذة.. وقد ورد أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقول “يا مقلِّب القلوب ثَبِّت قلوبنا على دينك، يا مُصَرِّف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك”، وفي حديث آخر أخرجه ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم “مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تقلّبها الرّياح”.
واعلم أنّ كلّ عضو خُلِق لفعل خاص، فعلامة مرضه أن يتعذّر منه ذلك الفعل، أو يصدر منه نوع من الاضطراب. فمرض اليد يحول دون بطشها، ومرض العين يمنعها من الإبصار، ومرض القلب أن يتعذّر عليه فعله الخاص به الّذي خُلق لأجله، وهو العِلم والحِكمة والمَعرفة وحبّ الله تعالى وعبادته وإيثار ذلك على كلّ شهوة.
فلو أنّ الإنسان عرف كلّ شيء ولم يعرف الله سبحانه وتعالى كان كأن لم يعرف شيئًا. وعلامة المعرفة: الحبّ، فمن عرف الله أحبّه، وعلامة المحبّة أن لا يؤثر عليه شيئًا من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئًا من المحبوبات فقلبه مريض، كما أنّ المعدة الّتي تؤثر أكل الطين على أكل الخبز وقد سقطت عنها شهوة الخبز، مريضة.
لماذا شرع الله الصوم وفرضه على عباده؟
إن الله تبارك وتعالى جعل شهر رمضان موسمًا من مواسم الطاعة، فهل يقبل على المسلمين كل عام ليكون له في مجتمعهم تأثير، وفي نفوسهم تأديب، وفي مشاعرهم إيقاظ، وكأنه لهم فصل ربيع فيه للقلوب حياة، وللنفوس جلوات وهو يأتيهم بعد أن ظلوا أحد عشر شهرًا، وهم سائرون في مسالك الحياة ينالون منها وتنال منهم، وتعلق بهم رواسب وأخلاط من أعراضها وشهواتها فيصيبهم بذلك لون من ألوان الكسل أو الفتور أو الخلل، فيأتيهم رمضان بصيامه وقيامه وعبادته وتلاوته، ونفحاته وخطراته، فينفض هذه الأجسام الوانية، ويظل يوقد عليها بنار تأديبية، ويضيئها بأنوار تهذيبية حتى يجعلها في آخره بفضل الله وتوفيقه وقد اكتمل وعُيها الروحي وصلاحها الحسي وصفاؤها النفسي، فتتخذ لها من ذلك عدة تسير بها على الطريق حتى يلقاها رمضان مرة أخرى في عام قابل، وهكذا دواليك.
فيتجدد الصلاح ويتأكد الإصلاح بالتقوى والهُدى، ويتحقق قول الحق جل جلاله: {يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلكُمْ تَتقُونَ} البقرة:182.
وعالمنا يشكو طوفان ذلك السعار المادي الذي أصاب أكثر الناس فجعلهم يطلبون ولا يعطون، ويشتهون ولا يصبرون، ويحسنون الجمع ولا يعرفون القسمة، حتى حطم في كثير منهم روح المغالبة للشهوات والمقاومة للأهواء، فيأتي شهر رمضان ليكون مدرسة تستمر ثلاثين يومًا وليلة من كل عام فيأخذ فيها الصائم المخلص دروسًا علمية تهديه إلى المغالبة وتقويتها، وإلى المقاومة وتعزيزها، والحياة غير مأمونة العواقب، فهي يوم لك ويوم عليك، فإذا ألِفَ الإنسان الترَف والنعيم، ثم فاجأته شدة ذل أمامها وخضع، لأنه لم يتعود على خشونة أو تقشف أو تخفف في المتاع، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: “اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم”.
kaheel7.com