مجازر غزة•• نتيجة لفعل تافه
وفقا لهذا التقسيم المعتمد رسميا من طرف الحكومات أو من طرف المنظمات الدولية، فإن زوال الأسباب التي أدت إلى وقوعها يؤدي إلى توقف تبعاتها• ويتعلق الأمر هنا بخلاصة يبدو أنها تتسم بالحكمة، وتعكس على ما يبدو سير الأحداث، وتتميز بميزة من شأنها فتح الطريق أمام حل عادي: أن يتوقف الفلسطينيون عن إطلاق صواريخهم، ليتوقف المحتلون عن ارتكاب المجازر• وهكذا، يكون من الممكن العودة إلى وضعية من الجمود ''مفيدة'' للطرفين المتخاصمين• وبما أن السلام مطلب مطلق لا أحد يستطيع الاستغناء عنه ولا بالتالي رفضه، يجب إبعاد العنف في العلاقات بين الأفراد لكي يستفيد الطرفان في نهاية المطاف• ويمكن لكل طرف في الأخير أن يتفرغ لأنشطته اليومية، ولا يمكن للعالم إلا أن يكون أفضل!
نظرة متوازنة للأحداث
تبدو هذه النظرية للأحداث نظرة متوازنة على وجه الخصوص، كون الطرفان يشتركان بالتساوي في التوبيخ والاستنكار• إن لكل طرف جزء من المسؤولية في هذه المجزرة التي تتم تحت أعين الكاميرات المتحركة، في حين يفترض في كل طرف أن يتحلى بضبط النفس، لتعود الأمور إلى طبيعتها مما قد يسعد قادة العالم ورجال الحكمة بلا حدود، مما يجعل كل طرف يتمتع بالسلام، ويحيا حياة كريمة جديرة بالعيش•
فلم يدّخر بعض هؤلاء القادة الكبار جهدا للتنقل من عاصمة كبرى إلى أخرى، من أجل إعادة النظام والأشياء إلى طبيعتها لفائدة المصلحة المشتركة للطرفين•
إبادة نظامية تنفذ تحت غطاء محاربة الإرهاب
عندما تتم عملية القضاء على شعب مستهدف من طرف الإباديين على المدى الطويل، مهما كانت الايديولوجيا المستخدمة في تبرير الإبادة، يمكن حسب دعاة الأطروحة المعتمدة هنا، تصنيف الإبادة على أنها تكملة لعمليات حفظ النظام، على غرار الأعمال التي تستهدف محاربة ''الرؤوس السيئة''، ''الإرهابيين'' مفسدي الأفراح، الذين يمنعون الناس الطيبين من أن يعيشوا حياتهم•• وباختصار، ضمن الأعمال التي تدخل في جحيم المهام العادية للدول والحكومات من أجل حفظ السلم، وضمان الحد الأدنى من الأمن الذي يسمح لكل فرد بمباشرة أعماله العادية والاهتمام بعائلته وأعماله الشخصية بدون تجشم المخاطر أو يعرض نفسه للخطر! إن المشكلة في هذا الصنف من التلحيل المطبق على الصهيونية هو استبعاده الكامل لعنصر الإبادة عن هذه الايديولوجيا، تحليل كانت غايته ولاتزال ''أرض بلا شعب من أجل أرض بلا شعب''•
إنه لصحيح مقارنة مع ايديولوجيات الإبادة الأخرى، أن تنفيذ الايديولوجية الصهيونية يتم ضمن نظام سياسي ديمقراطي، حيث يمكن لدعاتها أن يصوتوا بكل ديمقراطية على تنفيذ إجراءات تسمح بتطبيقها في الميدان• ويمكن أن تنسب الكثير من الأشياء للصهيونية، غير أنه لا يمكن أن ينسب إليها تنفيذ هذه الايديولوجيا بطريقة سرية وبدون نقاش عام بين دعاتها، عندما يتعلق الأمر بالتطهير العرقي•
هل توجد صهيونية إبادية معتدلة؟
لا تخفي مختلف التأويلات الصهيونية إطلاقا أهدافها النهائية، الأمر الذي يجعل من الصعب، بل من المستحيل، أن تجد صهيونيا معتدلا• وتتفق جميع الأحزاب الصهيونية على ضرورة التصفية الجسدية للفلسطينيين فوق الأرض الموعودة، أن ما يريده الصهاينة المعتدلون هو إتمام هذه التصفية بأكبر قدر من الاعتدال، إذ بدلا من طرد الفلسطينيين بصفة جماعية أو تجميعهم في معسكرات الموت على الطريقة النازية أو العربية ـ الكرواتية•• يجب محاصرتهم وحرمانهم من الوصول إلى كل ما يسمح لهم بالعيش وبطريقة عادية ومصادرة أراضيهم، اعتقالهم واغتيالهم الواحد تلو الآخر من وقت لآخر، أو قنبلتهم وتدمير مساكنهم لأي سبب كان، وكذا قتل أطفالهم••• إلخ•
ويرى الصهاينة المعتدلون أن الوقت يعمل لصالحهم، وبالتالي من غير الضروري أن لا يتسرعوا، فهم يتمتعوون بالدعم القوي عبر العالم، كون مشاريعهم الإبادية ليست فقط مشاريع ديمقراطية بل تشرف على تنفيذها هيئات منتخبة، وتبررها بالأسباب الأمنية، بحيث لا يمكن لأحد إدانتها•• مثل قتل الفلسطينيين، مصادرة أراضيهم، تسميمهم، بناء جدار حولهم بعلو ثمانية أمتار، طردهم باسم الأمن•
وباختصار، تطالب الصهيونية المعتدلة بممارسة الإبادة ذات الوجه الإنساني• الإبادة بطريقة ديمقراطية
يريد الصهاينة المتطرفون، وهم مجانين، تسريع التطهير العرقي، ويعتبرون أن المبررات ''الإنسانية'' المقدمة من طرف الصهاينة المعتدلين مبررات خطيرة، كونها تؤيد المشكلة المطروحة من طرف شعب تم تجاهله من طرف الأباء المؤسسين للايديولوجيا الصهيونية، ويطالبون بأعمال أكثر شراسة ضد الفلسطينيين المقاومين الذين يرفضون الاختفاء بصفة طوعية• وتكمن فكرة هؤلاء الصهاينة في الوصول إلى مقابلة ليس فقط الأرض مقابل السلام، وحسبهم أن الفلسطينيين لا يملكون أرضا، بل يريدون السلام مقابل السلام''، سلام المقابر أو سلام المنفى، وللفلسطينيين حرية الخيار•
فالخيار الديمقراطي للمنتخبين هو الدعوة إلى تطبيق هذه الصيغة المتطرفة في الايديولوجيا الصهيونية، وهي كل ما يجب فعله من أجل حمل المدافعين عن الديمقراطية على اعتبار الإبادة السريعة للشعب الفلسطيني عملية مشروعة•
وهكذا، فإن ما ينسب لزعماء النازية، مثلما هو شأن زعماء العرب والكروات والهوتو، ليس الإبادة التي شجعوها ونفذوها بعنف ضد بعض الأقليات من السكان، وإنما فقط عدم إقرار هذه الإبادات ضمن الصيغ والأشكال التي تنص عليها الديمقراطية، وعلى أساس مبادئ الفصل بين السلطات وانتخاب ممثلي الشعب، ''السيد والمتفوق''•
إسرائيل: ديمقراطية الإبادة
للصهاينة نظام دستوري شفاف، بالرغم من أنهم لا يملكون لحد الآن دستورا يرغمهم على إعلان بكل وضوح أن دولتهم دولة عنصرية، كما لا يملكون قانونا يحدد الحقوق المدنية لمن يقولون حكمهم، وإلا سيكونون مرغمين على تعريف حقوق دعاة ايديولوجيتهم التي تختلف عن حقوق الشعب الفلسطيني الذي ترفض الصهيونية وجوده•
فالنظام القضائي الصهيوني يعمل وفق قواعد تقلد مؤسسات البلدان الأكثر تقدما من أجل إضفاء الشرعية على النظرة الصهيونية للأشياء، حيث لا يوجد الفلسطيني تحديدا•
التطهير العرقي في فلسطين
يمكن أن نعتبر بطبيعة الحال هذا التحليل كتحليل يقدم صورة جد سلبية عن الصهيونية، غير أن شهادات الإسرائيليين عديدة ويمكن قراءتها بسهولة حتى يمكن تأكيدها وتبرير طابع الإبادة عند إسرائيل، بل وأيضا لتقديم الأدلة عن تنفيذ هذه الايديولوجيا في أبشع تبعاتها الدموية واللاإنسانية والتنديد بها•
فقد كتب IIAN PAPPE المؤرخ الإسرائيلي الذي لا يمكن اتهامه بمعاداة السامية، كتابا باللغة الإنجليزية عنوانه ''التطهير العرقي في فلسطين''، حيث يشرح فيه الطابع النظامي لإبادة الشعب الفلسطيني• وفيما يلي ما كتب هذا المؤرخ عن محاولة أعضاء عرب في ''الكنيست''، مجلس منتخب في النظام الديمقراطي الصهيوني، الاستئناف لدى المحكمة العليا لإسرائيل قصد إلغاء قرار بطرد وترحيل عرب ''إسرائيليين'' من قرية جليلية في جانفي 2006: ''لقد كان الأعضاء العرب في الكنيست ضمن مجموعة من الإسرائيليين الذين قاموا باستئناف أمام المحكمة العليا لإسرائيل ضد آخر قانون عنصري عندما رفضت المحكمة العليا الاستئناف، لتتلاشى عزيمتهم• لقد أظهر قرار المحكمة العليا بطريقة واضحة إلى أي درجة كانوا خارج اللعبة في أعين الأنظمة البرلمانية والقضائية الإسرائيلية، التي أظهرت مرة أخرى أنها تفضل الصهيونية على العدالة• فالإسرائيليون يبتهجون بالترديد على مسامع الفلسطينيين أنهم يجب أن يكونوا سعداء بالعيش في كنف ''الديمقراطية الوحيدة'' في المنطقة، حيث يملكون الحق في التصويت، غير أنه لا أحد يتوهم حول كون تصويتهم لا يعطيهم أية سلطة تذكر أو نفوذ حقيقي''•
ولم يقم IIAN PAPPE في كتابه الصادر في 2006 سوى بالتذكير بما قام به باحث يهودي آخر ALFRED LILIENTHAL الذي كان قد وثق في كتاب عنوانه ''الشبكة الصهيونية'' نشر في 1978 وجمع الأدلة عن الطرد النظامي للفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وعن تدمير مدنهم وقراهم ومساجدهم، وتدنيس مقابرهم، وعن تقتيلهم حتى يفسح المجال للمهاجرين اليهود• ويذكر LILIENTHAL في مقدمة هذا الكتاب بجملة لألبرت اينشتاين الذي غالبا ما يتم تجنيد اسمه بعد وفاته لتبرير المرامي الأكثر إجرامية للصهيونية: ''لا يمكن بلوغ السلم في فلسطين بالقوة بل بالتفهم''•
ويذكر PAPPE أيضا التعليق المشار إليه أعلاه، والذي من المفيد تكراره هنا، عن أرنون صوفر أستاذ الجغرافيا بجامعة حيفا، والذي نشر في ''الجيروزاليم بوسط'' في 10 ماي 2004: ''إذا ما أردنا أن نبقى على قيد الحياة، علينا أن نقتل، نقتل، ونقتل، كل يوم وفي سائر الأيام• إذا ما توقفنا عن القتل، فإننا نتوقف عن الوجود•• فالفصل من جانب واحد لا يضمن السلام، بل يضمن دولة صهيونية يهودية بأغلبية ساحقة من اليهود''، (ص 249)• ويبرر هذا التصريح المنشور في إحدى أكبر اليوميات الإسرائيلية ويفسر ويلخص مذبحة الفلسطينيين التي تجري الآن في غزة، ويمكن اعتباره كتصريح يلخص بصفة عنيفة ووقحة وبدون تأويلات في الأسلوب السياسة الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين، بالأمس واليوم، وبلا أدنى شك غدا أيضا، مثلما هو الشأن إزاء الشعب اللبناني المتهم بإيواء الفلسطينيين المطرودين من أراضيهم وديارهم تطبيقا للايديولوجيا الصهيونية•